span>مصطفى كاتب.. نضال الفن المسرحي عبد الحميد ساحل

مصطفى كاتب.. نضال الفن المسرحي

إن المسار الفني لمصطفى كاتب في الميدان المسرحي بالجزائر، يبدو لنا كتجربة رائدة بالنسبة لتطور هذا المجال إبّان الفترة الاستعمارية.

كان المسرح يمثّل بالنسبة إليه “أهم عنصر في حياته”، ورغم مشاهدته لأفلام سينمائية (عربية خاصّة) وهو صغير، بمدينة عنابة في بداية الثلاثينات، وهو الذي ولد بمدينة سوق أهراس سنة 1920، إلاّ أن انجذابه للمسرح كان قد برز في وقت مبكّر.

بدأت الميول الفنّية للمسرح تظهر لدى مصطفى كاتب، بفضل جمعية مسرحية ثقافية كانت قد أُنشئت في الثلاثينيات بمدينة عنابة، وهي جمعية “المزهر البوني” التي كانت تحت إشراف كل من السيّدين الجنيدي والجاندي، وكانا من الشخصيات الثقافية الجزائرية المتشبعة خاصة بالأدب العربي.

بعد انتقال مصطفى كاتب مع عائلته إلى مدينة الجزائر، سنحت له فرصة حضور ومتابعة أول عرض مسرحي لفرقة أحد أعمدة المسرح الجزائري، ألا وهو محي الدين باشتارزي، واعتراه انبهار بذلك العرض الكوميدي، ذو الإيقاع المتميّز.

وفي تلك الفترة يواصل حضور عروض مسرحية كثيرة مثل مسرحية “يا حسراه” لرشيد قسنطيني، والمقتبسة عن فيلم “آنجيل “Angel   للكاتب والمخرج مارسيل بانيول الفرنسي.

فاكتشف أيضا عبقرية هذا الفنّان، أي رشيد قسنطيني، الذي وجده ممتازا في أدائه، وعملاقا فوق الخشبة، ذو قدرة متفردّة على التبليغ والتواصل.

وهذا الولع بالمسرح، جعله يقترب أكثر من أهله، وكان باشتارزي صادقا في حدسه، حينما اعتبر مصطفى كاتب في أحد اللقاءات من “المسكونين” بهذا الفن.

من هنا استدعاه للتمثيل في بعض المسرحيات الإذاعية سنة 1938، رغم عدم قناعة والديه باختياره هذا.

وكانت أول أدواره على الخشبة بمدينة “المدية” في تمثيلية (سكاتش) بعنوان “الطبيب الصقلّي”.

بداية من سنة 1940، برزت أحد ملامح تجربته الفنّية المسرحية، حيث يؤسس مصطفى كاتب فرقة احترافية وهي “المسرح” بهدف العمل على تكوين ممثلين، وبالتالي اختيار العروض لتقديمها في إطار الجمعيات، وأفواج الكشافة الإسلامية.

وفي سنة 1945 ينضم لهذه الفرقة كلّ من الفنان علاّل المحب وسيد علي فرنانديل، وقامت بنشاط مستمر على مستوى قاعة الماجيستيك (الأطلس) بباب الواد.

وإلى جانب هذا، كان مصطفى كاتب آنذاك مساعدا في عملية الإخراج، ومن المسرحيات التي أخرجها مع فرقة “المسرح” نجد: “آخر بني سراج” التي اقتبسها عن الكاتب الفرنسي “شاتو بريان”، وعرضت سنة 1946 بقاعة الماجيستيك.

ويبدو أن مصطفى كاتب، كان له مشروع أو رؤية ثقافية خاصّة، بحيث في محاولة منه لإرساء أسس مدرسة جزائرية أخرى متميّزة في المسرح وتسهم في ميدان التكوين أيضا، قام بإنشاء جمعية فنية هي “المسرح الجزائري” سنة 1948.

فكان من الضروري، حسب رأيه آنذاك، القيام بتطوير ثقافة مسرحية، رغم الصعوبات التي كان من أهمّها القمع الاستعماري.

وبالفعل فإن من مظاهر هذا القمع، منع إعادة عرض مسرحيات جزائرية بحتة، مثل “هنيعل” أو “خالد”.

في التمثيل

أظهر مصطفى كاتب، قدرات رائعة، في ميدان التمثيل خاصة حينما عرضت مسرحية “خالد” أو (شمشون الجزائري) سنة 1947 للكاتب الجزائري محمد ولد الشيخ.

وهو عرض قدّمته فرقة المسرح البلدي لمدينة الجزائر. وفي السنة نفسها، مثّـل في مسرحية جزائرية هي “في سبيل الشرف” المقتبسة عن مسرحية “في سبيل الوطن” لمحمد المنصالي التي قدّمها سنة 1922 باللغة العربية.

ورغم الدور الذي أنيط به كاتب، بحيث كان قصيرا، إلاّ أنه أظهر أنه ممثل كبير حسب الصحافة، وفي الموسم المسرحي 1947/1948 ، لعب في مسرحية “حنيبعل” التي ألّفها الكاتب والمؤرخ الجزائري أحمد توفيق المدني.

ولم يُرد مصطفى كاتب الانضمام لفرقة أوبرا الجزائر، ولا لفرقة أوبرا وهران، فقد فضّل مواصلة مسيرته وتجربته مع جمعية “المسرح الجزائري”.

وحينما قام في شهر مارس 1950 بإخراج ملهاة “الساحر” للكاتب الجزائري عبد الله النقلي، و مثّل فيها دور الأم، صرّحت صحيفة “ألجي ريبوليكان ” بأن مصطفى كاتب يعتبر بحقّ رجل مسرح.

ويتأكد هذا الوصف النقدي، مع تمثيله الرائع في مسرحية “عطيل” التي اقتبسها أحمد توفيق المدني عن شكسبير، وقامت الفرقة العربية الجزائرية للأوبرا بتقديمها في ماي 1951.

ولاحظ مصطفى كاتب نقص الكتابات المسرحية، فلكي يعطي دفعا لحيوية التأليف والإبداع في الجزائر باللغة العربية، وليس بالدارجة فقط، تنظم جمعية “المسرح الجزائري” مسابقة لأحسن عمل مسرحي جزائري باللغة العربية، مع تخصيص جائزة مالية للفائز الأوّل.

وبالفعل نّظمت المسابقة، وفاز الكاتب عبد الله النقلي بالجائزة الأولى عن مسرحية “الكاهنة”، تلك البطلة التاريخية للجزائر.

فقام مصطفى كاتب بإخراج هذه الدراما المكوّنة من ثلاثة فصول، وقدّمت للجمهور سنة 1952، فكان حدثا هاما بالنسبة لحركة المسرح الجزائري، تعكس توجّهات نضالية ووطنية واعية لرجل أراد أن يكون “المسرح نابعا من الشعب ويكون في خدمة الشعب” كما قال ذلك كاتب، في محاضرة ألقاها سنة 1953.

وفي سنة 1952، وبمدينة وهران، ساعد في إخراج مسرحية “آه يالخير” لعبد القادر غالي. ثم أخرج مسرحية “سيد الحاج” من تأليف عبد الحليم رايس ومصطفى قزدرلي وقدّمت في أفريل 1953.

ويكبر طموحه الفني النضالي، لإبلاغ العالم مأساة الشعب الجزائري، فيقوم بالمشاركة بفرقته، في مختلف المهرجانات العالمية للشبيبة، خاصة في دول أوروبا الشرقية. ففي هذا المهرجان قال باشتارزي إن فرقته، أي فرقة مصطفى كاتب، حاولت من خلال أعمالها فضح مساوئ الاستعمار الفرنسي.

وخلال الثورة الجزائرية (الخمسينيات)، قدّم في باريس عروضا لصالح الجالية الجزائرية المغتربة. وحينما التقى هنالك بأحمد بومنجل، تمّ الحديث عن إمكانية تأسيس فرقة فنّية تكون في خدمة الثورة الجزائرية. و اختمرت الفكرة في مهرجان موسكو للشبيبة سنة 1957، خاصة وأنّ لجنة التنسيق  التنفيذ لجبهة التحرير الوطني، كانت قد قرّرت تأسيسها في السنة نفسها.

وهكذا، بعد العودة من موسكو تأسّست فرقة جبهة التحرير الوطني وتمّ تجميع أعضائها في سنة 1958. وأظهرت جدّيتها والتزامها الفنّي، بحيث أنتجت في السنة ذاتها مسرحيتين: “نحو النور” كعمل جماعي و”مونسيرا” لإيمانول روبلس.

وتم إخراج المسرحيات التي ألّفها الفنان عبد الحليم رايس، وهي “أبناء القصبة” 1959، ثم “الخالدون” 1960، ثم مسرحية “دم الأحرار” في عام 1961. وقال الروائي الطاهر وطار في روايته “تجربة في العشق”:

“ولدت (أبناء  القصبة والخالدون) وبرزت الإيقاعات واهتزازات وجدات الأجداد، فبان الوجه الحضاري للجزائر، بدأ العالم يتذكر، أنّ الجزائريين كانوا جزائريين قبل أن يأتي إليهم الفرنسيون”.

وقامت فرقة جبهة التحرير الوطني بجولات عديدة لعرض هذه المسرحيات وذلك في كل من: ليبيا والصين والمغرب والاتحاد السوفياتي والعراق بطلب من مسؤولي في الثورة، وفكّر مصطفى كاتب في مستقبل المسرح الجزائري بعد استرجاع الاستقلال، وكان ذلك بداية من 1959.

وهكذا تبدأ انطلاقة جديدة، بتأسيس المسرح الوطني الجزائري (TNA) وتعرف مسرحيات رويشد نجاحا كبيرا مثل: “حسان طيرو” و”الغولة “. وتمكنت هذه المؤسسة الفنية، بالتعريف بقدرات إبداعية أخرى خاصة: ولد الرحمان كاكي وعبد القادر علّولة والحاج عمار… بحيث تمكن هؤلاء مع مصطفى كاتب من إثراء سجّل الإبداع المسرحي.

وتماشيا مع هذه الحركية ومقتضياتها الفنية يؤسس مع محمد بوديا “المعهد الوطني للفنون الدرامية” سنة 1964.

لكن مع بداية السبعينيات تطفو على الساحة الفنية خلافات بين مصطفى كاتب ومسؤولين عن هذا القطاع، تمثّلت خصوصا في سياسة “لامركزية” المسرح الوطني. و اعترض على هذا المشروع و برّر هذا الموقف قائلا، إن الوسائل والإمكانيات المتوفّرة آنذاك، لا تسمح بالتوقف عن هذه التجربة للمسرح الوطني الجزائري.

فمشروع اللامركزية سابق لأوانه. فكان يرى انتظار تخرج دفعات على مستوى معهد برج الكيفان للفنون الدرامية، لإثراء المسرح بأشخاص مؤهلين. وهذه هي الأسباب التي دفعته للاستقالة من على رأس المسرح الوطني الجزائري، وكان يقول: “إن المسألة في الخلاف كانت ذات طابع تنظيمي، وليس فنّي”.

وكان المسرح الوطني قد أنتج ثمانية وخمسين (58) مسرحية، و أخرج كاتب لوحده عشر مسرحيات من أهمّها: أبناء القصبة وحسان طيرو والخالدون والجثّة المطوّقة والرجل صاحب النعل المطاطي. ونال المسرح الوطني في مدّة 08 سنوات كل جوائز مهرجانات مسرح المغرب العربي.

وبعد استقالته، كلّف بالتنشيط الفني والثقافي في الوسط الطلاّبي الجامعي من سنة 1974 إلى 1981 .

وكانت “تجربته مع الطلبة جدّ مثرية، في اكتشافه للقدرات الفنية التي تتمتّع بها البلاد”. ثم قام بالإشراف على فرقة المركز الثقافي لولاية الجزائر، واُستدعي في نهاية 1988 للإشراف مجددا على المسرح الوطني. و كان له جهد فنّي قبل ذلك، مع حبّه الكبير للمسرح .بحيث قدّم سنة 1984 مسرحية “جحا باع حماره”.

توفيّ رحمه الله في 28 أكتوبر من سنة 1989، واعتبره باشتارزي أحد أهم رجالات المسرح الجزائري في فترة ما بعد الاستقلال. لقد اعتبر المسرح حبّه الكبير، لعبة، وهذه اللعبة تدور بين ثلاثة أشخاص :المؤلف والممثّل والجمهور، وحينما تفشل مسرحية ما، ينبغي البحث عمّن لم (يلعب) دوره جيّدا.

بقلم الدكتور: عبد الحميد ساحل

عبد الحميد ساحل

أستاذ بكلية الإعلام والاتصال بجامعة الجزائر3

شاركنا رأيك